الاشراف
الغزافيون من سلالة إدريس بن عبد الله
الحسني |
كتــــاب النســـــب1
ادخل كلمات البحث وانتظر بضع دقائق .. لتكرار البحث عن الكملة انقر مرة آخرى
تمهيد
في أحوال الخلافة الإسلامية لما
مات رسول الله r
تولى الخلافة بعده الخلفاء الراشدون الأربعة
أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم
أجمعين والأمة الإسلامية ما عدا الشيعة
مجمعون على خلافتهم،
فلما قتل علىّ رضي الله عنه، بايع أهل
العراق ابنه الحسن رضي الله عنه، وزحف إليه
معاوية رضي الله عنه في أهل الشام، ورأى الحسن
وجوب حقن دماء المسلمين وجمع كلمتهم وتصـور
ما في ذلك من الأجر والثواب عند الله تعالى،
فاختار الثواب والدار الآخرة على الدنيا
وحطامها ممتثلاً بذلك قول المصطفى r
فيه : ابني هذا سيصلح الله به بين فئتين
عظيمتين من المسلمين، فتنازل عن الخلافة
لمعاوية عام [40] هـ فسمي ذلك العام عام الجماعة.
(1) وخلصت
الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه،
وتوارثها بنوه من بعده وبنوا أمية، وتخلل ذلك
منازعات وثورات يقوم بها بنو هاشم أدت بمقتل
السواد الأعظم منهم على يد الأمويين وعمالهم.
ولما تضعضع أمر بني أمية في أيام : مروان
الحمار اخر خلفائهم، اجتمع أهل البيت
بالمدينة المنورة وتشاوروا فيمن يقدمونه
للخلافة بعد انقضاء دولة بني أمية المتوقع،
فوقع اختيارهم على : محمد بن عبد الله الكامل
بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي
طالب وهو الملقب بالنفس الزكية، وله من
الأخوة أربعة : إبراهيم ويحى وسليمان وإدريس. وقد
حضر البيعة بالمدينة أبو جعفر المنصور عبد
الله بن محمـد بن علي بن عبـد الله بن عبـاس
فبـايع معهم لمحـمد { النفس الزكية } وذلك قبل
انتقال الخلافة إلى بني العباس. (2) وأجمع
بنو هاشم على مبايعة النفس الزكية لما علموا
له من الفضل والصلاح وتقدمه في ذلك عليهم
جميعاً، ولما انقرضت دولة بني آمية وتمت
الخلافة لبني العباس، وآل الأمر إلى أبي جعفر
المنصور سعى الواشون عنده بآل البيت وزعموا
أن محمداً { النفس الزكية } يريد الخروج عليه،
فأمر أبو جعفر المنصور عامله على المدينة
رباح بن عثمان المري بحبس عبد الله بن حسن
وأبنائه واخوته وبني عمه، فحبس من أكابرهم
خمسة وأربعون نفساً وقدم أبو جعفر المنصور
المدينة حاجاً فسـاقهم معه إلى العراق
وحبسهـم بقصـر ابن هبيرة حتى هلك معظمـهم فيه. وجد
المنصور في البحث عن محمد { النفس الزكية }
وأخيه : إبراهيم لكونهما تغيبا فلم يحبسا في
جملة من حبس من عشيرتهم وفي سنة خمس وأربعين
ومائة تضايق محمد بن عبد الله بن حسن { النفس
الزكية } من كثرة الطلب والبحث عنه لقتله من
قبل المنصور فظهر في المدينة ودعا الناس
لمبايعته، فاستفتى الناس مالكا في الخروج مع
محمد، فقالوا له إن في أعناقنا بيعة لمنصور
فذكرهم مالك بالبيعة الأولى لمحمد ومن
المبايعين المنصور نفسه فتسارع الناس إلى
دعوته، فبلغ الخبر المنصور فكتب إلى محمد
يبذل له الآمان ويعده بالجميل إن هو رجع إلى
الطاعة فرفض محمد ذلك فأرسل المنصور عمه عيسى
بن موسى العباسي لقتال محمد فاقتتل الفريقان
بالمدينة المنورة حتى خر محمد صريعاً بضربة
من حميد بن قحطبة في صدره وأرسل عيسى برأسه
إلى المنصور، فقتل جماعة من أهل بيته، ولحق
ابنه علي بن محمد إلى السند، واختفى ابنه
الآخر عبد الله الأشتـر. ثم
خرج إبراهيم بن عبد الله أخو محمد بالبصرة
وانهزم أمام عيسى ابن موسى المذكور وفي سنة
[169] خرج بالمدينة حسين بن علي بن الحسن المثلث
بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن على بن أبي
طالب وكان معه جماعة من أهل بيته منهم إدريس
ويحى وسليمان بنو عبد الله { الكامل } اخوة
محمـد { النفس الزكية } فاشتد أمر الحسين
المذكور بالمدينة وقتل عامل العباسيين عليها
: عمر بن عبد العزيز بن عبيد الله بن عبد الله
بن عمر بن الخطاب وبايعه الناس على كتـاب الله
وسنة رسوله. (3) ومكثوا
بالمدينة مدة يتجهزون، ثم خرجوا إلى مكة
وأعلنوا خروجهم عن طاعة العباسيين فخرج إليهم
من خرج إليهم وكان ما
سنذكره لاحقاً إن شـاء الله . سبب
خروج الشريف إدريس بن عبد الله إلى المغرب قد
عرفنا خلال عرضنا الموجز لأحوال الخلافة بعد
الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم أن
ثورات آل البيت وطلبهم للخلافة تظهر من حين
لآخر منذ خروج الحسين السبط بن علي ابن أبي
طالب في زمن يزيد ابن معاوية وخلال فترة حكم
الأمويين وصدر من خلافة العباسيين إلى أن كان
من فروع تلك السلسلة خروج حسين بن علي بن حسن
بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب في 22/1/169هـ
بعد موت محمد المهدي بن المنصور. (4) وذكر
أن سبب خروجه أنه لما توفي المهدي بن المنصور
ذهب أمير المدينة إلى العراق لتعزية الخليفة
موسى الهادي بوفاة والده، وتهنئته بالخلافة
فجرت بالمدينة النبوية أمورٌ اقتضت خروجه،
والتف حوله جماعة وجعلوا المسجد مأواهم، غير
أن أعيان المدينة لم يجيبوه إلى ما أراد،
فارتحل إلى مكة فلما وصلها نادى في الناس أيما
عبد أتاه فهو حر، الأمر الذي أكد للناس خروجه
عن طاعة أمير المؤمنين فأتاه العبيد، فلما
انتهى الخبر إلى أمير المؤمنين موسى الهادي
بن محمد المهدي بن المنصور كتب إلى محمد بن
سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس فولاه قتال
الحسين وكان قد سار بجماعة مسلحين من البصرة
لخوف الطريق إلى مكة. وكانوا
قد أحرموا بعمرة متمتعين بها إلى الحج، فلما
قدموا مكة طافوا وسعوا وحلوا من إحرامهم
وعسكروا بذي طوى وانضم إليهم من حج من شيعة
العباسيين ومواليهم وقوادهم فقابلوا الحسين
وأتباعه يوم السبت الموافق للثامن من ذي
الحجة { يوم التروية } عام [169]هـ بذى طوى على
بعد ثلاثة أميال من مكة فاقتتلوا قتالاً
عنيفاً حتى خر الحسين ميتاً في أكثر من مائة
نفر من أصحابه. فانهزم
أصحاب الحسين واختلطوا بالحاج فاختفوا فيهم(5)
وهذه المعركة مشهورة في التاريخ بمعركة فخ. وكان
إدريس بن عبد الله { الكامل } بن حسن بن حسن بن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد انهزم فيمن
انهزم بعد مقتل حسين في معركة فخ فاستتر مدة
في لجة الحجيج وألح عامل السلطان في طلبه فخرج
به مولاه راشد ـ وكان عاقلاً شجاعاً قوياً ذا
حزم وتدبير ولطف ـ في جملة الحجاج منحاشاً به
عن الناس بعد أن غير زيّه وألبسه مدرعة وعمامة
غليظة وصيره كالغلام يخدمه، وإن أمره أو نهاه
أسرع الشريف في تلبية مطلبه فسلما بتوفيق من
الله ثم بتلك الحيلة حتى دخلا مصر ليلاً،
فبينما هما متحيران يمشيان في بعض طرقها لا
يدريان شيئاً عن البلد وأهله، ولا هداية لهما
فيه إذ مرَّا بدار مشيدة يدل ظاهرها على
باطنها ونعمة أهلها فجلسا في دكان على باب
الدار فرآهما صاحب الدار فعـرف فيهـما
الحجازية، فتـوسم في خلقتهـما الغـرابة
فقـال : أحسبكما غريبين أو عربيين، قالا : نعم
وأركما مدنييـن، قالا : نعم، نحن كما ظننت. فإذا
الرجل من موالى بني العباس فقام إليه راشد وقد
توسم فيه الخير فقال له : يا هذا قد أردت أن
ألقى إليك شيئاً ولست أفعل حتى تعطيني موثقاً
أن تفعل إحدى خلتين إما آويتنا وتتقرب إلى
الله بالإحسان إلينا وحفظت فينا نبيك محمداً r
، وإن كرهت ما ألقيته إليك سترته علينا .
فأعطاه على ذلك موثقاً فقال له : هذا إدريس بن
عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب خرج
من موضعة مع الحسين بن علي بن الحسن فسلم من
القتل وقد جئت به أريد بلاد البربر فإنه بلد
ناء لعله يأمن فيه ويعجز من يطلبه. فأدخلهما
منزله وسترهما حتى تهيأ خروج رفقة إلى
أفريقية فاكترى لهما جملاً وزودهما وكساهما.
فلما عزم القوم على النهوض للرحيل قال لهما :
إن لأمير مصر مسالح {حراس الحدود } لا يجوز أحد
إلا فتشوه، وهاهنا طريق اعرفها لا يسلكها
الناس، فأنا أحمل هذا الفتى { إدريس } في هذا
الطريق الغامض البعيد فألقاك به يا راشد في
موضع كذا حيث تنقطع مسالح مصر، فركب راشد في
أحد شقى المحمل ووضع متاعه في الشق الآخر ومضى
مع الناس في القافلة. وخرج
الرجل على فرس له وحمل إدريس على فرس آخر فمضى
به في الطريق الغامض وهي مسيرة أيام حتى تقدما
القافلة، وأقاما ينتظرانها حتى وردت فركب
إدريس مع راشد حتى إذا قربا من أفريقية ضربا
صفحاً عنها فلم يدخلاها وسارا في بلاد البربر
حتى استقـرا في مدينة { زرهـون } بين قبيلة
وليلـي. (6) أستقر
الشريف إدريس الأول في مدينة { زرهون } بين
قبيلة وليلي البربرية. وفي رمضان عام [172] هـ
بايعته قبائل البربر وقدموا له كل معاني
الولاء والنصر وتفانوا في الدفاع عنه وظل
يحكمهم بدون منازع مدة خمس سنين. وكانت
سنـوات حكمه سنوات إقامة أسـاس الدين وقواعده
ونشر تعاليمه في المجتمع وحمل الناس عليه،
والتوحيـد بين قبـائل البربر المتناحرة في
ظـل تعـاليم الإسلام الحاوية لكل معاني العدل
والمساواة، الجالبـة للتآلف بين الأمم
والشعوب والمجتمعات والأفراد، كما كانت
سنـوات حكمـه سنوات البنـاء والتعمير
والجهاد ودخول القبائل البربرية واحدة تلو
الأخـرى في ديـن الله واستقرت البلاد وهدأت
الحروب القبلية وأمن الناس على أنفسهم
وأموالهم وشهدت البلاد والعباد تطوراً في
جميع نواحي الحياة لم تكن تحلم بها، إلى أن
انتهى خبر إدريس وإقامة دولته في المغرب إلى
الخليفة العباسى هارون
الرشيد في بغداد فكان ما سنذكره لاحقاً إن شاء
الله. (7) لما
انتهى خبر إدريس إلى هارون الرشيد كربه أمره
وأقلقه وأشغل فكره، فا ستدعى وزيره يحى بن
خالد البرمكي فاشتكى إليه فقال له يحى يا أمير
المؤمنين أنا أكفيك شره ومقدم لك من خبره ما
يسرك ويذهب غمك. فأرسل
يحى بن خالد إلى سليمان بن حريز الجزري الملقب
بالشماخ، وهو رجل من ربيعة من المتكلمين وممن
يرى رأى الزيدية، بل له فيه إمامة عظيمة وقد
جمع الرشيد بينه وبين هشام بن الحكم حين ناظره
في الإمامة، وكان حلوا شجاعاً يُعد أحد
شياطين الإنس لا تعجزه حيلة لما أراد، فأرغبه
يحى بن خالد في مال، ووعده عن نفسه وعن
الخليفة بمواعيد عظيمة، ودعاه إلى قتل إدريس
والتلطف في ذلك فأجابه وأعطاه مالاً جزلاً،
ووجه معه رجلاً يثق به وبشجاعته. ودفع إلى
الشماخ قارورة فيها غالية مسمومة فانطلق مع
صاحبه يخوضان الصحارى والقفار والفيافي
المترامية الأطراف حتى وصلا إلى الشريف إدريس
بن عبد الله، وكان إدريس ذا معرفة تامة
بسليمان الشماخ ورئاسته في الزيدية وموالته
لآل البيت، فلما جلس بين يدي الشريف قال له :
إنما جئتك وحملت نفسي على ما حملتها عليه
لمذهبي الذي تعرفني به، وإن السلطان طلبني
لمحبتي في الخروج معكم اهل البيت فجئتكم لآمن
في ناحيتكم وانصرك بنفسى، فسر الشريف لقوله
وقبله بصدر رحب وأحسن مثواه وأكرم نزله وآنس
به حتى لا يكاد يقطع بأمر دون استشارته، وفتح
له مجالس البربر وأخذ يظهر الدعاء إلى ولد
رسول r
ويشن حملات شعواء على بني العباس وبني أمية
لاستئثارهم بالولاية دون آل بيت رسول الله
r
ومحاولة بعضهم إبادة آل البيت حتى لا يبقى
منهم من يفكر في الولاية في المستقبل، ويظهر
أنه يحتج لوجوب الولاية لآل البيت كاحتجاجه
لذلك في العراق فأعجب ذلك إدريس منه، فمكث
عنده مدة يطلب غرته ويرصد الفرصة في أمره
ويرمق باب الحيلة عليه حتى غاب راشد مولاه
غيبة طفيفة في بعض أموره واستثمر سليمان
الشماخ ذلك فدخل على الشريف ومعه القارورة
فلما انبسط إليه وخلا وجهه وانشرحت له
مكنونات نفسه قال له الشماخ : جعلني الله فداك
في هذه القارورة غالية حملتها معي وليس ببلدك
من الطيب ما يتخذ هذا منه فجئتك بها لتطيب بما
فيها، ووضعها بين يديه ففتحها الشريف إدريس
وتغلف منها وشمها، وظن الشماخ أنه نفذ همته
وربح بجائزته وانصرف إلى صاحبه، وقد أعد
فرسين قبل ذلك مضمرين فركباهما وخرجا مركضين
يطلبان النجاة، فلما وصل السم إلى دماغ إدريس
وكان في خياشيمه سقط مغشياً عليه لا يعقل ولا
يدري من يختص به ما شأنه فبعثوا إلى راشد فجاء
مسرعاً فتشاغل بمعالجته والتخبر في أمره وقد
قطع الشماخ وصاحبه على فرسيهما بلاداً شاسعة
في تلك المدة، وأمضى الشريف إدريس يومه في
غشيانه وعروقه تضرب ثم مات وتبين راشد أمر
الشماخ بكل وضوح فركب في طلبه في جماعة من
أصحابه، فجعلت الخيل تنقطع تحت أصحابه
ويتخلفون لشدة السير وحدة الطلب، وصبر فرس
راشد حتى لحق الرجلين وقد سبقاه بمسيرة يوم
فأدركهما وحده على فرسه فشد عليهما فانحرف
إليه سليمان الشماخ ليمنعه من نفسه فخبطه
راشد بالسيف فكنع يده آي : أطاره وضربه راشد
بالسيف ثلاث ضربات على وجهه ورأسه كل ذلك لا
يصيب منه مقتلاً مع دفع سليمان عن نفسه وما
كان عليه من الجنة، وكلّ فرس راشد وقام لشدة
الحمل عليه ونجا سليمان بحشاشة نفسـه
آي : بروحه، وصاحبه قد خذله فلم يغن عنه
شيئاً ولم يكن عنده إلاً الهرب، ثم نزل سليمان
بعد أن أمن الاتباع وعصب جراحه. وكان
ذلك في ربيع الثاني عام [177] هـ فكانت مدة
خلافته خمس سنوات. (8) عندما
توفي الشريف إدريس بن عبد الله لم يترك إلا
حملاً من أمة بربرية اسمها : كنزة، ولما فرغ
راشد من تجهيزه ودفنه جمع رؤساء البربر ووجوه
الناس فقال لهم : إن إدريس لم يترك ولداً إلا
حملاً من أمته كنزة وهي الآن في شهرها السابع
من حملها، فإن رأيتم أن تصبروا حتى تضع هذه
الجارية حملها فإن كان ذكراً أحسنا تربيته
حتى إذا بلغ مبلـغ الرجال بايعناه تمسكـاً
بدعوة آل البيت وتبركـاً بذرية رسول الله
r،
وإن كان جارية نظرتم لانفسكم. فقالوا
لـه : أيها الشيخ المبارك ما لنـا رأى إلاً مـا
رأيت فإنك عنـدنا عوض من إدريس تقـوم بأمورنا
كمـا كـان إدريس يقوم بـها وتصلى بنـا وتقضي
بيننـا بكتاب الله وسنة رسوله
r
ونصبـر حتى تضـع الجارية حملها ويكـون ما
أشـرت به، علـى أنـها إن وضعت أنثى كنت أحق
الناس بهـذا الأمر لفضلك ودينك وعلمك فشكرهم
راشـد على ذلك ودعـا لهم وانصـرفوا، فقـام
راشـد بأمر البربر تلك المدة. ولما
أتمـت الجارية أشهر حملها وضعـت غلامـاً
أشبـه الناس بأبيه إدريس فأخرجـه راشـد إلى
رؤسـاء البربر حتـى نظـروا إليه فقـالوا : هذا
إدريس بعينـه كأنه لم يمت، فسماه راشـد
إدريـس، ونشـأ الصبي نشأة حسنة إلى أن تولـى
خلافة أبيـه كما سنـذكر إن شـاء الله. (9)
كانت
ولادة إدريس المثنى بن إدريس الأول يوم
الاثنين ثالث رجب سنة سبع وسبعين ومائة فكفله
راشد مولى أبيه، وقام بأمره أحسن قيام فأقرأه
القرآن حتى حفظه وهو ابن ثمان سنين ثم علمه
الحديث والسنة والفقه في الدين والعربية
وَروَّاه الشعر وأمثال العرب وحكمها، وبصره
بسير الملوك وأيام الناس، ودربه على ركوب
الخيل والرمي بالسهام ومكايد الحرب، فلم يمض
له من العمر مقدار أحد عشر عاماً إلا وقد
اضطلع بما حمل وترشح للأمر واستحق أن يبايع،
فبايعه البربر حيث ظهرت عليه علامات النجابة
والذكاء في ذلك السن المبكر وذلك في يوم
الجمعة السابع من ربيع الأول عام [187] هـ . (10) قال
ابن خلدون : بايع البربر إدريس الأصغر حملاً
ثم رضيعاً ثم فصيلاً إلى أن شب فبايعوه بجامع
مدينة وليلي سنة ثمان وثمانين ومائة وهو ابن
إحدى عشرة سنة. (11) ويلاحظ
هنا اختلاف يسير في سنة مبايعته لما شب، بين
ما ذكره أبو عبيد البكري وبين ما ذكره ابن
خلدون مع اتفاقهما على بلوغه احدى عشرة سنة
عند مبايعته، والأشبه ما ذكره ابن خلدون
والله أعلم. وكانت
بيعته من كافة القبائل البربرية بعد خطبة
بليغة نمت عن نباهته ووعد فيها بالبناء
والتعمير وزيادة الفتوحات والجهاد في سبيل
الله وإقامة الدين وقواعده وتحقيق العدالة
بين الناس دون التفريق بين العربي والبربري
المسلم، ودعا الناس فيها إلى بيعته وحضهم على
التمسك بطاعته قائلاً : لا تمد الأعناق إلى
غيرنا فإن الذي تطلبون من إقامة الحق إنما
تجدونه عندنا. فعجب الناس من فصاحته وقوة جأشه
على صغر سنه، ثم نزل فتسارع الناس إلى بيعته
وازدحموا عليه يقبلون يده فبايعته كافة قبائل
المغرب من زناته وأوربة وصنهاجة وغمارة وسائر
قبائل البربر، وتوفي مولاه راشد بعد ذلك
بقليل. (12) لما
استقر أمر المغرب للشريف إدريس بن إدريس
وتوطد ملكه وعظم سلطانه وكثرت جيوشه وأتباعه
وفدت عليه الوفود من البلدان، وقصده الناس من
كل مكان فاستمر بقية سنة ثمان وثمانين ومائة
يصل الوفود ويبذل الأموال، ويستميل الرؤساء
والأعيان، ولما دخلت سنة تسع وثمانين ومائة
وفدت عليه وفود العرب من أفريقية والأندلس
نازعين إليه وملتفين حوله فاجتمع لديه منهم
نحو خمسمائة فارس من قيس والأزد ومذحج ويحصب
وغيرهم فسر إدريس بوفادتهم وأجزل صلتهم وأدنى
منزلتهم وجعلهم بطانته دون البربر، فاعتز بهم
وأنس بقربهم، فإنه غريباً بين البربر،
فاستوزر منهم عمير بن مصعب الأزدي، واستقضى
منهم عامر بن محمد بن سعيد القيسي وكان من أهل
الدين والورع والفقه سمع من مالك بن أنس
وسفيان الثوري، واستكتب منهم أبا الحسين عبد
الله بن مالك الخزرجي، ولم تزل الوفود تقدم
عليه من العرب والبربر حتى كثر الناس
الوافدون من المشرق العربي والأندلس ففكر في
مدينة أخرى يجعلها عاصمة ملكه تسعه مع هذه
الوفود القادمة من المشرق والمغرب بعدما أشيع
من عدله واتساع حكمه فسير المهندسين في
الأرجاء يبحثون عن مكان ذي جوى مناسب، وفيه
ماء يؤمن للمدينة الجديدة البقاء والازدهار
في المستقبل فأشاروا عليه بالمكان الذي أقيمت
فيه مدينة فاس فركب بنفسه حتى أتى الموقع
واطلع عليه بنفسه فاقتنع لصلاحيته لقيام
العاصمة المنوية عليه، فأنشأ الشريف مدينة
فاس سنة اثنتين وتسعين ومائة. (13)
لما
انتقل الشريف إدريس المثنى إلى عاصمته
الجديدة فاس وحضرت الجمعة الأولى صعد المنبر
وخطب الناس ثم رفع يديه في آخر الخطبة فقال :
اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة
مباهاة ولا مفاخرة ولا رياء ولا سمعة ولا
مكابرة، وإنما أردت أن تعبد بها ويتلى بها
كتابك وتقام بها حدودك وشرائع دينك وسنة نبيك
محمد r
ما بقيت الدنيا اللهم وفق سكانها وقطانها
للخير وأعنهم عليه واكفهم مؤنة أعدائهم وأدر
عليهم الأرزاق واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق
إنك على كل شئ قدير. وعندما
اطمأنت دولته في فاس وما حولها خرج للغزو في
سبيل الله ففتح نفيسا في المحرم سنة سبع
وتسعين ومائة، ثم نفزة وتلمسان، ورجع سنة تسع
وتسعين، وتابع فتح مدن وقرى بلاد البربر
وقبائلها حتى توفاه الله بوليلي سنة ثلاث
عشرة ومائتين بحبة عنب ابتلعها فغص بها فلم
يزل مفتوح الفم سائل
اللعاب حتى مات. (14) خلافة
محمد بن إدريس بن إدريس الأول توفي
الشريف إدريس المثنى بن إدريس الأول عن اثني
عشر ولداً هم : محمد، وأحمـد، وعيسـى،
والقاسـم، وإدريس، وجعفر، ويحـى، وحمزة،
وعبد الله، وداود، وعمـر، وعبيد الله. وتولى
الخلافة بعده أبنه الأكبر محمد، وفرق البلاد
المغربية الواقعة تحت سيطرتهم على اخوته
بمشورة جدته كنزة أم إدريس بن إدريس، واتخذ
محمد بن إدريس مدينة فاس قراراً له، واخوته
ولاة على بلاد المغرب قد ضبطوا أعمالها وسدوا
ثغورها وأمنوا سبلها وحسنت سيرتهم في ذلك إلى
أن دب بينهم الخلاف. وكان
توزيع المغرب عليهم على النحو الآتي : ولاية
القاسم كانت على طنجة وسبتة وقصر مصمودة
وقلعة حجر النسر وتطوان وما أنضم إلى ذلك من
القبائل. ولاية
عمر على تيكساس وترغة وما بينهما من قبائل
صنهاجة وغمارة. ولاية
داود على بلاد هوارة وتسول وتازا وما بين ذلك
من قبائل مكناسة وغياثة. ولاية
يحى على أصيلا والعرايش والبصرة وبلاد ورغة
وما والى ذلك. ولاية
عيسى على سلا وشالة وأزمور وتامسنا وما أنضم
إلى ذلك من القبائل. ولاية
حمزة على مدينة وليلي وأعمالها. ولاية
أحمد على مدينة مكناسة ومدينة تاد لا وما
بينهما من بلاد فازازا. ولاية
عبد الله على أغمات وبلد نفيسا وجبال
المصامدة وبلاد لمطة والسوس الأقصى. وابقى
الآخرين في كفالته وكفالة جدتهم كنزة لصغرهم. (15) خرج
عيسى عن طاعة أخيه محمد فكتب إلى أخيهما
القاسم عامله على البصرة وطنجة يأمره بقتال
عيسى إذ كان يحاذيه في البلد، فأبى القاسم ذلك
وخالف أمر محمد، فكتب محمد إلى أخيه عمر بمثل
ذلك فأجابه وسارع إلى نصرته فأوقع بأخيهما
عيسى وأخرجه عن ولايته وهرب، ثم أمر محمد أيضا
أخاه عمر بمحاربة أخيهما القاسم، فحاربه
وتغلب على ما كان بيده. فتزهد القاسم بعد ذلك
فأعرض عن الدنيا وبنى مسجداً على ضفة البحر
بأصيلا ولزمه حتى مات. وتوفي
عمر بن إدريس ببلد صنهاجة بموضع يقال له فج
الفرس ونقل إلى مدينة فاس ودفن بها بجوار أبيه.
(16) وهو
جد الأشراف الحموديين الذين أقاموا الخلافة
في الأندلس سنة سبع وأربعمائة كما سيأتي. وتوفي
محمد بن إدريس المثنى في فاس بعد أخيه بسبعة
أشهر، وذلك في ربيع الثاني سنة [221] هـ بعد أن
عهد لابنه علي بن محمد بالخلافة. (17) خلافة
علي بن محمد بن إدريس المثنى ( حيدرة ) ولى
علي بن محمد بن إدريس المثنى الأمر بعد أبيه
باستخلافه له وبايعه الناس وعمره تسع سنين
وأربعة أشهر وسار في الناس سير أبيه فكانت
أيامه أيام خير وبركة إلى أن توفي سنة [234] . وهو
جد الأشراف العلميين { أهل جبل العلم } ومنهم
المشيشون أولاد عبد السلام بن مشيش،
والوزانيون أولاد عبد الله بن مشيش. الهــوامش
|
3
|